بعد استتاب الأوضاع في سري كانيه (رأس العين) وتشكيل مجلس مدني يضمّ مختلف مكونات المدينة، اثر فشل مخططات تعريب المدينة تحت غطاء الثورة هذه المرة، ومحاولة جعلها مدخلاً لاحتلال المناطق الكردية الأخرى وإثارة الفتنة بين مكوناتها كما كان مراداً من الغزو الفاشل الذي تعرضت له المدينة، والمقاومة الشعبية التي خاضها أبناء المدينة بقيادة وحدات حماية الشعب (YPG)، التي شكّلت صمام أمان لحفظ التعايش والتعدّد اللذين لطالما تميّزت بهما، والمستهدفين من المجموعات الغازية ومنها جماعات مرتبطة مع تنظيم «القاعدة» ومن على شاكلته من تنظيمات سلفية تكفيرية، سارعت هذه إلى انتهاك حرمة كنائس المدينة بل ومحاولة تلغيمها وتفجيرها حتى كما تبين لاحقاً عندما أبطلت وحدات الحماية قنابل متفجرة داخل إحدى الكنائس.
ولعل أكثر ما جسّد نبل وعظمة مقاومة وحدات الحماية وعمق التزامها الأخلاقي في حماية مختلف سكان المدينة وأهلها مسارعتها في خطوة رمزية بالغة الدلالات إلى قرع أجراس الكنائس فور هزيمة تلك الجماعات الغازية، ومطالبتها بوقف النار بعد الخسائر الفادحة التي تكبدتها، فقرع تلك الأجراس كان إيذاناً بعودة الأمن والسلام والحرية إلى المدينة، وبانتصار إرادة الحياة والحق والتنوع. والحال أنّ كاتب هذه السطور، وإبان احتدام المعارك خلال أسبوعين من بدء غزو المدينة، ورغم إيماني الكامل بانتصار وحدات الحماية في تلك المعركة الاستراتيجية الوجودية بالنسبة للشعب الكردي في سوريا، معززةً بدعم أهل مدينتي لها ووقوفهم خلفها، إلا أنه لطالما حاصرتني الهواجس والمخاوف على سري كانيه التي مثلت خندق الدفاع الأول عن كردستان سوريا كلها، وعن مبادئ الحرية والتعددية ونبذ العنف والتطرف التي لطالما مثلتها الثورة الكردية في سورية على نظام البعث.

ولعل أكثر ما كان يؤرقني مصير تلك الكنائس، لا سيّما أن شارع الكنائس حيث مرابع الطفولة وذكرياتها كان تحت قبضة الغزاة، فالشارع الواقع على مرمى حجر من بيتنا والذي تتوسطه مدرستي: مدرسة الأمل التابعة لكنيسة الكاثوليك التي كانت في وسط فنائها بئر أو جب في باحتها المتداخلة مع ساحة الكنيسة، حتى أننا عندما كنا نشاغب في الصف كانت معلماتنا أو آنساتنا كما كنا نناديهن يلوحن بمعاقبتنا عبر رمينا في الجب، وكم يتملكني الضحك عندما أتذكر أنني كنت اعتقد حينها أن أبونا هو اسم علم وليس رتبة دينية يكنى بها الأب راعي الكنيسة.

ففي تلك اللحظات العصيبة، حيث كانت تتعرّض المدينة لهجمة همجية عبر قصفها بالأسلحة الثقيلة عشوائياً، كم كان يلحّ عليّ التساؤل عن مصير بشرها وحجرها ومعالمها وبخاصة كنائسها، التي تمثل رمزا لتعددية المدينة وتسامحها وانفتاحها وكون إحداها كنيسة الكاثوليك. هي أولّ مكان أتعلم فيه، ما شكّل مصدر قلق مضاعف عليها وعلى معلماتنا، وعلى مسيحيي المدينة (كونهم أقلية مستهدفة من قبل بعض الظلاميين الناشطة ضمن صفوف المعارضة المسلحة) ومختلف أطيافها.

لكن مع المقاومة المظفرة لوحدات الحماية وفشل مخطط الغزو وابرام اتفاق السلام وعودة الحياة تدريجياً إلى سري كانيه، وعودة معظم الأهالي لها ووجود ممثل المسيحيين ضمن المجلس المحلي للمدينة في إطار الكتلة الكردستانية التي تقاسمت مع الكتلة العربية المقاعد العشرين، بواقع عشرة مقاعد لكل طرف تبددت بعدها تلك المخاوف والهواجس إلى حدّ كبير، ولو أنّ المخاوف تلك تبقى قائمة ما دامت سوريا، لا سيّما في شقها العربي، دخلت في المجهول وكافة الاحتمالات مشرعة الأبواب، لكن يبقى اليقين بقدرة وحدات (YPG) على ردع أي محاولات لاستهداف سري كانيه مجدداً، هي أو أي منطقة أخرى من كردستان سوريت. مبعث الطمأنينة الأول رغم الواقع الدموي المؤسف العاصف بسوريا، والذي ثمة محاولات محمومة لنقله إلى المنطقة الكردية عبر جرّها إلى حلقة النار الملتهمة باقي المناطق.

* كاتب كردي